الخميس، 10 فبراير 2011

لبنان كثرة في الزعامات وقلة في العمل القيادي

اللبنانيون نقّاقون. يجمع العديد من زوار لبنان على ان الصفة الأبرز لأحاديث اللبنانيين معهم هي النّق. هذا الوصف ليس بعيداً عن الدّقة، الا أن المصاعب التي ما زال اللبنانيون يعانونها قد تبرّر لهم ذلك، فلبنان هذا البلد الصغير لم تهدأ فيه منذ نشوئه الصراعات الداخلية، ولم يكن يوماً في منأى عن خلافات محيطه وأزماته. الناس مرهقون ومتوتّرون ومُحبطون ويستحقون الراحة والكثير من التفهّم والمساندة.
ويعتقد العديد من اللبنانيين ان المصاعب التي يعيشها وطنهم فريدة في تعقيداتها وبصعب جداّ حلّها، ما يحتّم عليهم أن يقبلوا العيش في حالة مستمرّة من القلق وكأن معاناتهم قدر الهي. والحقيقة ان متاعب لبنان فعلاً كثيرة ومعقدّة وعميقة ومزمنة، ولكم يشبه هذا البلد المتوسطي الجميل مريضاً لم يبرح متنقلاً منذ ولادته بين غرفة العمليات، وغرفة العناية الفائقة، وغرفة الانعاش، وغرفة النقاهة، ليعود ثانية حيث بدأ الى غرفة العمليات، في دائرة مغلقة لم يستطع بعد كسرها أو الخروج منها.
ولكن قراءة سريعة للتاريخ تظهر ان ما من بلد أو مجتمع الا وقد واجه مصاعب وتحديات، كل حسب بيئته وثقافته وإرثه، ولا مبالغة في القول ان كثيراً من المجتمعات والبلدان واجهت تحديات أكبر وأخطر من تلك التي يواجهها لبنان، ولكنها إستطاعت أن تعالجها وتتغلّب عليها. ان المصاعب والأزمات أمر ثابت في تاريخ المجتمعات البشرية وحاضرها، ولا يمكن بناء حضارة أو النهوض بمجتمع الا عبر التعامل معها بجرأة ومسؤولية وحكمة، فالمشاكل موجودة لكن الحلول أيضاً موجودة.
أين العقدة؟
المشكلة ليست في وجود المشاكل، ولكن في غياب العمل القيادي، فمفتاح التطور ليس إنعدام الصعاب أو الوجود في بيئة لا تفرز تحديات، بل الاستمرار في انتاج عمل قيادي يساعد المجتمع على التأقلم مع التحديات بفاعلية وقدرة، والتأقلم لا يعني التعايش مع المشكلة، بل الرُقي الى المستوى المعنوي والتقني اللازم لمواجهتها. العمل القيادي هو الأساس في مواجهة الأزمات وإستغلال فرص النمو، فمن دونه يبقى أي مجتمع في حالة ركود وتراجع كما هو الحال في لبنان.
وقد يكون من المفيد هنا توضيح القصد بالعمل القيادي، وهو مجال معرفي شاسع بدأ الباحثون أخيراً التعمّق فيه أكاديمياً بعيداً عن الانشائية والمفاهيم الشائعة. وتعريفه انه مساعدة المجتمع على إمتلاك القيَم الضرورية لإستمراره وتطوّره، وهو ينطلق عبر عدة نقاط رئيسية ابرزها:
1- الاعتراف بوجبود التحديات بواقعية ودّقة.
2- البحث عن الاسباب الاساسية للتحديات الحقيقية، والفصل بين ما هو جوهري وما هو عارض.
3- وضع الناس أمام مسؤوليتهم، وتنبيههم الى ان هذه المشاكل تخصّهم، وانه عليهم تقع مسؤولية البحث عن الحلول والعمل الدؤوب لتطبيقها وبثّ الوعي بأنه لا يجوز لهم أن يضيّعوا الوقت والجهود في البحث عن عذر يعفيهم من مسؤوليتهم أو غيجاد شمّاعة يعلّقون عليها سبب مشاكلهم، او تبنّي نظرية المؤامرة التي تلقي بكل التبعات على العدو.
وحده العمل القيادي الذي يفتقده لبنان، مثل الكثير من المجتمعات، هو الذي أنقذ المجتمعات البشرية وأخرجها من أزماتها، وأوصلها الى ما وصلت اليه اليوم من تقدّم وحضارة وتطوّر. وكما هي الحال في أغلب المجتمعات، يوجد في لبنان خلط بين الزعامة وهي ( سلطة authority) من جهة، وبين القيادة leadership من جهة أخرى. والخطأ الشائع إطلاق اسم القائد على من يمثّل الزعامة أو السلطة سواء كانت سلطة زمنية أو دينية او عسكرية أو ادارية او اجتماعية أو ما شابه، وفي مجمل دول الشرق الأوسط يطلقون اسم القائد على رأس الدولة والقوات المسلحة.
والحقيقة ان القيادة ليست لقباً، بل هي فعل أو سلسلة أفعال محددة تهدف الى مساعدة المجموعة كي ترقى الى مستوى التحديات بهدف الاستمرار والتطور، بحيث يكون عبء مواجهة التحديات موزعاً على المجموعة لكاملها، ما يستلزم زيادة الوعي عند المجتمع وتشجيع المجموعة " حتى يغيّروا (هم) ما بأنفسهم"، لتكون لهم الحياة وتكون حياة أفضل.
ولعلّ الصعوبة الابرز في وجه العمل القيادي في لبنان، والكثير من البلدان، انه يصادم المفهوم المترّسخ للزعامة ولممارساتها، فالزعامة التي تسعى بشكل أساسي للبقاء في موقعها ولتعزيز هذا الموقع، تحيا وتستمر وتنمو من خلال ترسيخ اتكالية المجتمع عليها، وهي تطلب من المجتمع ان يترك لها تحديد طبيعة التحديات التي يواجهها. وكذلك إيجاد السبل الملائمة للتعامل معها. وما ساهم في زيادة الاتكالية انتشار ثقافة الخوف من الآخر، الأمر الذي يزيد تمسّك المجموعة بزعيمها طلباً للحماية وسعياً للشعور بالاطمئنان، وقد عزّز الخطاب السياسي عند الطوائف في لبنان بشكل متزايد سيكولوجيا الخوف من الآخر وعدم الثقة به، فتحصّن موقع الزعيم وتحسّن، لأن المجموعة عندما تتحسس الخطر تتمسك أكثر فأكثر بزعيمها، وتفوّض له أمرها بشكل أشمل، وتمتنع عن مساءلته ومحاسبته، تماماً كحال الصبي الخائف، فأنه كلما إستشعر الخوف تشبّث بثوب والده وإنصاع له إنصياعاً تاماً.
وعلى عكس ما سبق، يتطلّب العمل القيادي تشجيع تعاون أفراد المجتمع، الأمر الذي يستلزم توحيد مكوّنات المجتمع بمدّ جسور التواصل، وتعزيز بناء الثقة بين الأفراد والمجموعات لينفتح بعض هذه المجتمعات الضيقة على بعض عوضاً عن التقوقع والانعزال، والأهم من ذلك، يساعد العمل القيادي كل مجموعة على التخلّي عن بعض طموحاتها وولاءاتها وخصوصياتها من اعراف وتقاليد لمصلحة المجموعة الكبرى التي هي الوطن.
وفي نظرة الى تطور الأحداث في لبنان، نجد ان الانقسامات آخذة في الازدياد منذ الاستقلال، فبعدما كانت طائفية صارت مذهبية وإزدادت حدّة، ولم تكن المحاولات التقريبية كافية، وان كانت فيها بوادر ايجابية، من شأنها اذا تواصلت وتكاملت أن تنشىء مجتمعاً متماسكاً وسليماً.
خلاصة ما مرّ، ان التمايز قائم بين الزعامة والعمل القيادي من حيث الهدف والممارسة، فهدف الزعامة مبنيّ بمعظمه على الذاتية من خلال توسيع نفوذ الزعيم. في حين ان هدف العمل القيادي هو مساعدة المجتمع على التعامل مع التحديات وإقتناص الفرص المتاحة والاستثمار فيها بما يخدم إستمرار المجموعة وتطورها ولو على حساب شعبية القائد، بخلاف الزعامة، فأن المفهوم الصحيح للعمل القيادي لا يقاس بعدد الأتباع والمؤيدين، بل بمقدار مساعدة المجتمع على زيادة مستوى وعيه ليعيش حياة أفضل.
اما من حيث الممارسة، فالزعامة تسعى لزيادة إعتماد الناس عليها وتدعوهم الى ترك المبادرة لها وتفويض الامور اليها، بينما العمل القيادي يدفع الناس الى العمل والمبادرة ومواجهة التحديات وتحمّل المسؤولية.
ان ماساة لبنان ليست بالدرجة الأولى أزماته، بل غياب العمل القيادي الكفيل بالتعامل مع صعاب الحاضر وتحديات المستقبل وفرصه، وحتى بروز الأعمال القيادية الضرورية في لبنان سيستمر النّق بل النين، وستزيد معه الحاجة في العالم الى التفهّم ومساندة هذا الشعب المتعب والكثير الأحمال.


مايكل كولي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق